ارشيف الذاكرة .. رعي الأغنام
يمنات
أحمد سيف حاشد
(6)
رعيتُ الغنم، و كنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا حالما يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة .. و لي مع الأغنام حكايات كثيرة، و علاقات حميمية قل مثيلها .. كانت لأغنام أمي و أبي في وجداني مملكة من الزهور، تملئوا عالمي الصغير .. ذكريات و تفاصيل لا تُنسى، بل أثبتت خمسون سنة مضت، إنها عصية على التلاشي، و لا يدركها غروب أو نسيان..
ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لم أنسها إلى اليوم، رغم مرور نصف قرن من عمر حافل و مزدحم بكل شيء .. ذكريات و مشاهد و صور و تفاصيل لن أنساها حتى و إن بعدت مني إلى الأقاصِ، أو صعدتُ علوا منها إلى سطح القمر..
ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها .. و لكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل .. أمامك منحدر..
لازلت أذكر إلى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن.. لازلت أذكر أشكالهن و حكايتهن و كثير من التفاصيل .. لازلت أذكر “حجب” و “بيرق” و “خرص” و “عنب” و “شمار” و “غبراء” و “خضاب” و “فرح” و “مرش” و “سواد” و “حلق” و “حنّا” و “حمراء” و “نشم” و “بحرية” و “قدرية”..
كم هي الذاكرة غنية ببعض التفاصيل، و كم أحيانا تضيق حتى لا تتسع لمعرفة عمر ابنك..!! لازالت الذاكرة تتوقد بتفاصيل خلت قبل خمسين عام .. و بعضها باتت مُظلمة و عصية على التذكر رغم حداثة عهدها، و عدم بعدها عن اليوم بمرمى حجر .. أذكر تفاصيل الطفولة من خمسين عام، و تخونني نفس الذاكرة في عهد لازال غير بعيد..
في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة و اللجوء السويسري، في “الأنترفيو”عن أسماء أبنائي و أعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهي و معلوم .. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة، و أشعر أن بعضها يطير كالشوارد، فأعيدها، و تهرب أخرى من يدي كالعصافير، و يسقط بعضها للأرض دون أن أسمع لصوتها وقع أو طنين، و بعضها ألتُّ و أفتُّ فيها و أذكرها مرتين..
و فشلت أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي و الذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة تسلسلهم بفارق عام بين كل واحد و آخر .. فيما المترجم الفلسطيني كان يتفرس في وجهي، و هو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، و ما رأيت واحدا منا لديه من شبهه أربعين .. و لكنني أدركت حينها أننا اليمنيين أيضا متشابهين في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين و الصينيين و نحوهم..
لازلت أذكر العنزة “حجب” اللبون، و جسمها الضخم و الممتلئ، و المنحدر من سلالة هندية عريقة .. “حجب” التي كان أبي إذا دعاها، و هي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كبا و هرولة؛ فأصابتها ذات يوم عين و ماتت، أو هكذا قيل..
لازلت أذكر “خرص” أم “بيرق”، و تمرد “عنب” و “حنا” اللاتي ينطبق عليهن مثل “أينما غلّست باتت”، و نشم “الذكية”، و سواد الطيبة، و “مرش” النافرة، و “قدرية” و “بحرية” أغنام أمي المساكين..
لازلت أذكر العنزة “خرص” التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، و بذلي ما في الوسع من جهد في رعيها .. فأسميت ما في بطن “خرص” “بيرق” قبل أن تلدها أمها، و كانت أول ملكية تدخل في ذمتي، و لم يكن لدي حينها أملاكا غيرها، و لم يكن يومها قد خُلق آخر عنقود العماد، و لم يكن له يومها هوية، و لم يكن للهوية قناة، و لا للفساد ذراع و مخالب، بل كان الجميع عدم على عدم، إلى أن جاءت المسيرة و الهوية، فصار للفساد ملك و مملكة..
قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة .. و الأذن تعشق قبل العين أحيانا ” أما أنا فعشقت “بيرق” قبل أن أراها، و قبل أن أسمع صوتها، بل و قبل أن تلدها أمها .. لقد كان عشق آسر و آخاذ، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له و لعشقه الكبير..
عشقت “بيرق” و هي لازالت ببطن أمها، في طور التكوين، تنمو و تكبر رويدا رويدا، و أنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر موسم البذار، أو كطفل يرقب طلوع الفجر عشية يوم عيده، و هو يستعجل غبشه، ليبتهج، و يلبس الجديد، و يطلق للفرح فضائه و أعنته..
خرجت “بيرق” من بطن أمها إلى فسحة الكون بهية كالصباح النّدي .. جميلة كالعين الدعجاء سوادا و بياضا .. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الكون و الوجود .. شبت “بيرق” الجرعاء من دون قرون .. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري .. مسالمة كالحمام .. بيضاء كندف القطن، أو بياضا كالجليد .. و عندما تحزن يكون سواد حزنها كثوب حداد..
ظللت أربيها و أحيطها بالعناية .. أهتم بها يوما على يوم .. كسبتها من جهدي المثابر، و سقيتها من عرق الجبين .. ليس فيها شبهة ملك لآخر، و لا فساد يشوبها، و لا تقوى برأس شيطان..
كل يوم كانت “بيرق” تكبر و تشب، و لكنها لم تحرق مرحلة، و لم تعدنا إلى عصر الديناصورات، و لم تمد يدها لقاتل، و لم تسرق شعب يعاني، و لم تأخذ حق معوز و محتاج..
ربما “بيرق” لا تصلي و لا تنافق، و لكن لها من العفة ما تسقي بلاد و أهلها بالماء الطهور .. تشب كما أرادها الله دون أن تتعسف أيامنا و الشهور، أو تستخدم في تكبيرها السم و العقاقير .. تنمو بمهل، و ليس بسرعة شبكة الهوية .. تقسط القول دون أن تفتري أو تدّعي، أو تجعل من ظهر الجندب ريش و حرير، و لا تصنع الفن من نقيق الضفادع .. و للقصة هوية و بقية..
***
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.